+
----
-
مقدمة
الحبيب علي الجفري يكتب: الكِبر
28/ ٩/ ٢٠٠٨
تحدثنا فيما سبق من مقالات حول المنافذ الحسية والمعنوية إلي القلب، من السمع والبصر ومن خواطر الخير والشر ومن المداخل السبعة للشيطان، فإذا ما أحكمنا إغلاق منافذ السوء منها، انتقلت مهمتنا إلي تنقية القلب ذاته مما علق به من سوء من قبل.
قائمة المحتويات
o أمراض القلب ثلاثة
o وجوه الِكبر
o خطورة الكبر
o أول علاج الكبر: علم
o كمال علاج الكبر: عمل
فالقلب في أول خلقه يكون علي فطرة نقية، كما جاء في الحديث عنه ـ صلي الله عليه وسلم ـ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يولَدُ عَلَي الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يهَوِّدَانِهِ أَوْ ينَصِّرَانِهِ أَوْ يمَجِّسَانِهِ» ( صحيح البخاري ١/٤٦٥ برقم ١٣١٩)، إذ الأصل في الإنسان الطهارة والنقاء، وليس من الصواب أن نعتقد ـ خلاف الأصل ـ بالخطيئة فيحتاج إلي تطهير، لكن إغفال الحفاظ علي القلب يدنسه بالتعرض لواردات السوء وخواطره، كالثوب الأبيض إذا تعرض لقاذورات علقت به.
وحب الدنيا سبب تلوث القلب، والتعلق بشهواتها رأس كل خطيئة، ولمعالجة هذا الأمر نحتاج إلي تفكيك حب الدنيا للوقوف علي عناصر معاصي القلب، من الِكبر والرياء والحسد وغيرها من أمراض القلوب، فنحتاج لأن نتعامل مع كل عنصر من هذه العناصر كي نصل في نهاية الأمر إلي معالجة حب الدنيا في القلوب.
أمراض القلب ثلاثة
إذا جئنا إلي أمراض القلوب سنجد أن أخطرها وأعمقها وأدقها وأصعبها في العلاج ثلاثة: الِكبر والرياء والحسد، فأولي هذه المعاصي الكِبر، وأصله في الحقيقة معصية أخري هي العُجب أي شهود، ونسبة الفضل إلي النفس لا إلي توفيق الله تعالي، فالعُجب هو أصل مادة الكِبر.
وجوه الِكبر
والكِبر له وجهان: وجه إلي الباطن ووجه إلي الظاهر، فأما الوجه الذي للباطن فهو شهود الفضل للنفس علي الغير، وأول من قالها إبليس: «أَنَا خَيرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (الأعراف:١٢)، فالذي أضاع إبليس كلمة «الأنا» تلك، أي أنه رأي لنفسه الفضل علي الغير، وهو شعور باطني يثمر في السلوك الشعور بالترفع علي الغير.
فالكِبر يبدأ بحال في القلب وفي داخل نفس الإنسان بنسبة التميز التي عنده إليه لا إلي الله تعالي، ثم بعد ذلك يقارن بين ما عنده وبين أحوال الآخرين فيري لنفسه الرفعة والمكانة عليهم، أي ينظر إليهم علي أنه الأفضل، وهذه كلها لا تزال في حدود القلب وخواطره وانفعالاته.
إلا أن لكل شيء ثمرة فيتحول الحال القلبي إلي سلوك وتصرفات أولاً، فينظر إلي الناس بعين الازدراء والانتقاص ويتعامل معهم بجفوة ويرفض قبول نصح الآخرين، ثم ليثمر لنا بعدها أقوالاً.
ولكي نفهم المسألة أذكر لكم أن إبليس هذا كان يلقب بطاووس الملائكة، ويقال لا يكاد يوجد شبر في الأرض إلا وله فيه سجدة وعبادة، فارتقي بتلك العبادة إلي دائرة المقربين، لكنها كانت عبادة خالية من تنقية القلب، إذ كان كلما سجد لله شعر بذاته أكثر وأنه ينبغي أن يكون أفضل من غيره، وإلي هذا الحد كانت المسألة من داخله فتحولت نسبة العبادة إلي نفسه لا إلي توفيق الله له، فدخلت في العُجب ثم صارت مقارنة بينه وبين غيره.
فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم استجابوا بالرغم من استشكالهم السابق «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»، لأنه طلب معرفة لا كِبر ولهذا توقف عند حدود قوله تعالي لهم: «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ».
لكن إبليس كان عنده من الكِبر ما لا يقبل معه الاعتراف لغيره بالفضل، مع أن سبب المكابرة هنا " خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ". لاحظوا أن مسألة المكابرة تلك ابتدأت من داخله ثم صارت سلوكاً ممثلاً في رفض الانصياع لأمر الله تعالي بالسجود، أعقبه القول واللفظ مع الإصرار علي المعصية وغواية آدم وأبنائه حسداً.
خطورة الكبر
يقول الله تعالي: «الْكِبْرِياءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» ( مسند أحمد ١٥/٢١١ برقم ٩٣٥٩)، وفي رواية أخري: «الكبرياء ردائي، فمن نازعني ردائي، قصمته» (رواه الحاكم عن أبي هريرة ١/٦٩ وصححه)، فهل تري خطورة أكبر من هذا ؟ إن الذي يقر نفسه علي صفة الِكبر والتكبر إنما يعرضها لحرب الله عز وجل لأنه ينازع الله في صفاته الجلالية.
يقول العلماء: إن لله صفات جلالية وصفات كمالية وصفات جمالية، وقد تعبدنا الله في صفاته الجلالية بما يقابلها، فإذا كان لله تعالي العزة والكبرياء والغني والقدرة فيجب أن نتخلق بما يقابلها من التذلل لله والتواضع والافتقار والإقرار بالعجز، فلا ينبغي للعبد أن ينازع في صفات الربوبية التي استأثر بها لذاته، وقد أصيبت النفس الأمارة بالسوء بمرض ادعاء التخلق بها.
علي حين أن المقصود من الصفات الجمالية أن نعمل بها بعد التخلق بأخلاق الله منها، فالله سبحانه وتعالي اتصف بصفات أحب من خلقه أن يقتدوا به فيها مثل الكرم، فالله كريم ويحب الكرماء، والله رحيم وهو العفو الرؤوف، يحب الرأفة والشفقة والرحمة والعفو والحلم.
فإذا قابلت كلاً من تلك الصفات بما يليق بها من المقابلة لصفات الجلال والتخلق بصفات الجمال، تجلي الله عليك بصفات الكمال وأمدك من قوته وعلمه «آَتَينَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» (الكهف: ٦٥ )، لأنك أحسنت التعامل مع أسماء الله وصفاته.
أول علاج الكبر: علم
أن تعلم من أنت ؟ (فَلْينْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه يقول: «عجبت ممن يتكبر وهو ضعيف تنتنه العرقة، وتقتله الشرقة، وتؤرقه البقة». فأنت في حقيقتك ضعيف إنما تأتيك قوتك من التجائك إلي الله عز وجل.
ذلك لأن الإنسان يتكبر ويطغي عند شعوره بالاستغناء إما بالقوّة أو بالمال أو بشيء من أسباب النعمة، أو باتصافه بشيء من الفضائل يشعر بالاستعلاء بسببها، وعلاج ذلك أن ينظر الإنسان في سبب حصول هذا الأمر، فإذا كان من الله تعالي ولولا توفيقه ما استطعت أن تقوم به، فعلامَ تباهي أو تَمُنّ علي الله تعالي أو تتكبر في حضرته، بشيء هو الذي أعطاك إياه؟
قالوا: إن سيدنا داوود عليه السلام، مرّ يتفقد أهل بيته فوجد مائة من أهل بيته يقومون الليل فقال: يا رب مائة من آل داوود يقومون لك الليل، فقال: يا داوود من الذي أقامهم وأنام غيرهم؟ يا داوود من الذي وفّقهم وخذل غيرهم؟ فقال: أنت يا رب، فقال: أفتَمُنّ علي بنعمة قد مننت بها عليك؟
فإذا علمت هذا الأمر وتحول هذا العلم إلي يقين راسخ في داخلك، تحتاج بجانبه إلي عمل.
كمال علاج الكبر: عمل
فاحرص علي الأعمال التي تنمي فيك خلق التواضع، وأولها مبادرة كل من لقيت من الناس بالسلام والمصافحة، فعلاج الكبر في قوله صلوات ربي وسلامه عليه: «البادئ بالسلام بريء من الكبر» (شعب الإيمان للبيهقي ٦/٤٣٣ برقم٨٧٨٦ الباب الواحد والستون من شعب الإيمان)، وهو أمر يصعب علي النفس مداومة العمل به وتحتاج معه إلي مجاهدة للنفس وتذكير.
ثم بادر إلي الأعمال التي فيها كسر للنفس وردعها من التكبر، ولهذا يحكي عن الشيخ محمد متولي الشعراوي ـ وهو من أئمة المعتنين بتنقية القلوب في زماننا ـ أنه ألقي محاضرة في إحدي جامعات الجزائر بين فيها خطأ الشيوعية بأسلوبه السهل المبسط، فالتف حوله الحضور بمئات الآلاف ورغبوا في أن يحملوه بالسيارة إلي الفندق حيث يقيم
إلا أن الشيخ طلب في الطريق النزول عند أحد المساجد، وغاب لفترة طويلة أقلقت من كانوا برفقته فبحثوا عنه طويلاً داخل المسجد، حتي وجدوه وقد خلع ملابسه وأخذ ينظف مراحيض المسجد بنفسه، فلما تعجبوا من ذلك الفعل قال لهم: خشيت علي نفسي من الغرور فأردت أن أذكرها مقامها.. رحمه الله رحمة واس